فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.
عطف على جملة {ولقد آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51].
وقدّم مفعول {آتيناه} اهتمامًا به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعًا لذكر إبراهيم تنبيهًا على أنه بعث بشريعة خاصة، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم، وإلى أنه كان في مواطنَ غير المواطن التي حلّ فيها إبراهيم، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله.
ولأجل البُعد أُعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على {آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51]، ولم يُعَد في قصة نوح عَقِب هذه.
وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة.
وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد.
وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك.
والحُكم: الحكمة، وهو النبوءة، قال تعالى: {وآتيناه الحكم صبيًا} [مريم: 12] والعِلم: علم الشريعة، والتنوين فيها للتعظيم.
والقرية سدوم.
وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود والمراد من القرية أهلها كما مر في قوله تعالى: {واسأل القرية} في [سورة يوسف: 82].
والخبائث: جمع خبيثة بتأويل الفَعلة، أي الشنيعة.
والسّوْء بفتح السين وسكون الواو مصدر، أي القبيح المكروه.
وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر وهو أعم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.
{وَلُوطًا} [الأنبياء: 74] جاءتْ منصوبة؛ لأنها معطوفة على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إبراهيم رُشْدَهُ} [الأنبياء: 51] وأيضًا: آتينا لوطًا رشده. والحُكْم: يعني الحكمة، وأصله من الحكمة التي تُوضَع في حنك الفَرَس؛ لأن الفَرس قد يشرد بصاحبه أو يتجه إلى جهة غير مرادة لراكبه؛ لذلك يوضع في حنكه اللجام أو الحَكمة، وهي قطعة من الحديد لها طرفان، يتم توجيه الفرس منهما يمينًا أو شمالًا.
ومن ذلك الحِكْمة، وهي وَضْع الشيء في موضعه، ومنه الحُكْمْ، وهو: وضع الحقَ في مَوْضعه من الشاكي أو المشكو أي: الخصمين.
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 74] وفرْقٌ بين العلْم والحكم: العلم أن تُحقِّق وتعرف، أمَا الحكم فسلوك وتطبيق لما تعلم، فالعلم تحقيق والحكم تطبيق.
ثم يقول تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} [الأنبياء: 74] فقد نجَّى الله إبراهيم عليه السلام من النار، وكذلك نجَّى لوطًا من أهل القرية التي كانت تعمل الخبائث، والخبائث في قوم لوط معروفة.
لذلك يقول بعدها: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74] ورجل السَّوءْ هو الذي يسوء كل مَنْ يخالطه، لا يسوء البعض دون البعض، فكل مَنْ يخالطه أو يحتكّ به يسؤوه.
والفسْق: الخروج عن أوامر التكليف، وهذا التعبير ككُلِّ التعابير القرآنية مأخوذ من واقعيات الحياة عند العرب، فأصل الفِسْق من فَسقَتِ الرُّطبة عن قشرتها حين تستوي البلحة فتنفصل عنها القشرة حتى تظهر منها الرُّطبة، وهذه القشرة جُعلَتْ لتؤدي مهمة، وهي حِفْظ الثمرة، كذلك نقول في الفسق عن المنهج الديني الذي جاء ليؤدي مهمة في حياتنا، فمَنْ خرج عنه فهو فاسق.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنا}.
كيف؟ ألسنا جميعًا في رحمة الله؟ قالوا: لأن هناك رحمة عامة لجميع الخَلْق تشمل حتى الكافر، وهناك رحمة خاصة تعدي الرحمة منه إلى الغير، وهذه يعنُون بها النبوة، بدليل قول الله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فردَّ الله عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] أي: النبوة: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا} [الزخرف: 32].
فكيف يقسمون رحمة الله التي هي النبوة، وهي قمة حياتهم، ونحن نقسم لهم أرزاقهم ومعايشهم في الدنيا؟
فمعنى {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنا} [الأنبياء: 75] أي: في رَكْب النبوة {إِنَّهُ مِنَ الصالحين} [الأنبياء: 75] أي: للنبوة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، لَكِن قمة هذه الرحمة جاءت في النبي الخاتم والرسول الذي لا يُستْدرك عليه برسول بعده؛ لذلك خاطبه ربه بقوله: {وما أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فالرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا رحمة لأممهم، أمّا محمد فرحمة لجميع العالمين. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.
أخرج ابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي قال: كان في قوم لوط عشر خصال يعرفون بها: لعب الحمام، ورمي البندق، والمكاء، والخذف في الأنداء، وتسبيط الشعر، وفرقعة العلك، واسبال الإزار، وحبس الأقبية، وإتيان الرجال، والمنادمة على الشراب، وستزيد هذه الأمة عليها.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن عساكر، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ستة من أخلاق قوم لوط في هذه الأمة: الجلاهق، والصفر، والبندق، والخذف، وحل إزار القباء، ومضغ العلك.
وأخرج إسحاق بن بشر والخطيب وابن عساكر، عن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر خصال عملتها قوم لوط، بها اهلكوا، وتزيدها أمتي بخلة: إتيان الرجال بعضهم بعضًا، ورميهم بالجلاهق، والخذف، ولعبهم الحمام، وضرب الدفوف، وشرب الخمور، وقص اللحية، وطول الشارب، والصفر، والتصفيق، ولباس الحرير، وتزيدها أمتي بخلة إتيان النساء بعضهم بعضًا».
وأخرج ابن عساكر عن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سنن قوم لوط قد فقدت إلا ثلاثًا: جر نعال السيوف، وقصف الأظفار، وكشف العورة».
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {وأدخلناه في رحمتنا} قال: في الإسلام. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ}: {لُوْطًا} منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعدَه، تقديره: وآتَيْنا لوطًا آتَيْناهـ. فهي من الاشتغالِ. والنصبُ في مثلِه هو الراجحُ؛ ولذلك لم يُقرَأْ إلاَّ به لعَطْفِ جملتِه على جملةٍ فعليةٍ، وهو أحدُ المُرَجِّحات.
قوله: {مِنَ القرية} أي: من أهلِ. يدلُّ على ذلك قوله بعد ذلك: {إِنَّهُمْ كَانُواْ}، وكذلك إسناد عملِ الخبائثِ أليها، والمرادُ أهلُها. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. والخبائثُ: صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: تعملُ الأعمالَ الخبائثَ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.
أكمل له الأنعام بعصمته مِنْ مِثلِ ما امْتُحِنَ به قومُه، ثم بخلاصِه منهم بإخراجه إيَّاه مِنْ بينهم، فميزه عنهم ظاهرًا وباطنًا.
{وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}.
بيَّن أنه أدخله في رحمته ثم قال: {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ فلا محالة مَنْ أدخله في رحمته كان صالحًا.
وقوله: {وَأَدْخَلْنَاهُ في رَحْمَتِنا} إخبارٌ عن عين الجمع، وقوله: {إٍنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}: إخبار عن عين الفرق. اهـ.

.تفسير الآيات (76- 77):

قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتم سبحانه قصة لوط المناسبة لقصة الخليل عليهما السلام بحجارة الكبريت، ولقصة نوح عليه السلام بالماء الذي غمرت به قراه السبع، أتبع ذلك قصة نوح عليه السلام الذي سخر له من الماء ما لم يسخره لغيره لغمره جميع الأرض دانيها وقاصيها، واطيها وعاليها، فقال: {ونوحًا إذ} أي اذكره حين {نادى} أي دعا ربه {إني مغلوب فانتصر} [القمر: 10] و{لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] ونحوه من الدعاء.
ولما كان دعاؤه لم يستغرق الأزمنة الماضية، أثبت الجار فقال: {من قبل} أي من قبل لوط ومن تقدمه {فاستجبنا} أي أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا {له} في ذلك النداء؛ ثم سبب عن ذلك قوله: {فنجيناه} أي بعظمتنا تنجية عظيمة {وأهله} الذين أدام ثباتهم على الإسلام وصلتهم به {من الكرب العظيم} من الأذى والغرق؛ قال أبو حيان: والكرب: أقصى الغم، والأخذ بالنفس، وهو هنا الغرق، عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق.
{ونصرناه} أي مخلصين له ومانعين ومنتقمين {من القوم} أي المتصفين بالقوة {الذين كذبوا} أي أوقعوا التكذيب له {بآياتنا} أي بسبب إتيانه بها، وهي من العظمة على أمر لا يخفى.
ولما كان التقدير: ثم أهلَكِناهم، علله بقوله: {إنهم كانوا قوم سوء} لا عمل لهم إلا ما يسوء {فأغرقناهم} أي بعظمتنا التي أتت عليهم كلهم {أجمعين} حتى من قطع الكفر بين نوح عليه السلام وبينه من أهله فصار لا يعد من أهله، لاختلاف الانتساب بالدين. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}.
القصة الرابعة: قصة نوح عليه السلام:
أما قوله تعالى: {إِذْ نادى مِن قَبْلُ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
لا شبهة في أن المراد من هذا النداء دعاؤه على قومه بالعذاب ويؤكده حكاية الله تعالى عنه ذلك تارة على الإجمال وهو قوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فانتصر} [القمر: 10] وتارة على التفصيل وهو قوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] ويدل عليه أيضًا أن الله تعالى أجابه بقوله: {فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهذا الجواب يدل على أن الإنجاء المذكور فيه كان هو المطلوب في السؤال فدل هذا على أن نداءه ودعاءه كان بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من ضروب الأذى بالتكذيب والرد عليه وبأن ينصره عليهم وأن يهلكهم.
فلذلك قال بعده: {ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا}.
المسألة الثانية:
أجمع المحققون على أن ذلك النداء كان بأمر الله تعالى لأنه لو لم يكن بأمره لم يؤمن أن يكون الصلاح أن لايجاب إليه فيصير ذلك سببًا لنقصان حال الأنبياء، ولأن الإقدام على أمثال هذه المطالب لو لم يكن بالأمر لكان ذلك مبالغة في الإضرار، وقال آخرون: إنه عليه السلام لم يكن مأذونًا له في ذلك.
وقال أبو أمامة: لم يتحسر أحد من خلق الله تعالى كحسرة آدم ونوح، فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس، وحسرة نوح على دعائه على قومه.
فأوحى الله تعالى إليه أن لا تتحسر فإن دعوتك وافقت قدري.
أما قوله تعالى: {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} فالمراد بالأهل هاهنا أهل دينه، وفي تفسير الكرب وجوه: أحدها: أنه العذاب النازل بالكفار وهو الغرق وهو قول أكثر المفسرين.
وثانيها: أنه تكذيب قومه إياه وما لقي منهم من الأذى.
وثالثها: أنه مجموع الأمرين وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وهو الأقرب لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى الله تعالى مدة طويلة وكان قد ينال منهم كل مكروه، وكان الغم يتزايد بسبب ذلك وعند إعلام الله تعالى إياه أنه يغرقهم وأمره باتخاذ الفلك كان أيضًا على غم وخوف من حيث لم يعلم من الذي يتخلص من الغرق ومن الذي يغرق فأزال الله تعالى عنه الكرب العظيم بأن خلصه من جميع ذلك وخلص جميع من آمن به معه.
أما قوله تعالى: {ونصرناه مِنَ القوم} فقراءة أبي بن كعب ونصرناه على القوم ثم قال المبرد: تقديره ونصرناه من مكروه القوم، وقال تعالى: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] أي يعصمنا من عذابه، قال أبو عبيدة: من بمعنى على.
وقال صاحب الكشاف: إنه نصر الذي مطاوعه انتصر وسمعت هذليًا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أي اجعلهم منتصرين منه.
أما قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ} فالمعنى أنهم كانوا قوم سوء لأجل ردهم عليه وتكذيبهم له فأغرقناهم أجمعين، فبين ذلك الوجه الذي به خلصه منهم. اهـ.